بينما كان القطار المكيف المتجه إلى الوجه القبلي يشق طريقه مخترقا حقول ريفية شاسعة على جانبي الطريق، كان رفيقي في المقعد المجاور يُبدي تبرمه من عدم لحاقه بالطائرة المخصصة له، فهو وكيل شركة متعددة الجنسيات تعمل في مجال صناعة مواد البناء، ولها مصنعها الضخم في قلب الصعيد، فالوكيل لا يحتمل طول ساعات السفر في هذا الطقس الحار، حيث القطار المزدحم يقلل من برودة المكيف، كما أن المناظر الطبيعية مُملة - في نظره -؛ فهي متكررة وغير مثيرة، ولكن القطار - في لحظة الصدق- يتعطل قليلا فتزداد معاناة الوكيل، في ذات الوقت الذي تتحول نافذة القطار إلى نافذة اجتماعية تعكس بناء المجتمع الريفي المحيط ؛ فالوكيل الذي لا يحتمل الطقس الحار في القطار المكيف يشاهد من النافذة الزجاجية السميكة فتيات صغيرات السن بالعشرات، يعملن في الحقول المنتشرة على جانبي الطريق، وإذ به يبدو مندهشا "كيف لتلك الفتيات أن يعملن في هذا الوقت شديد الحرارة؟ وكم يَحصُلن من مال لقاء هذا العَناء؟
لم تستمر معاناة الوكيل كثيرا فهو لا يجد تبريراً غير إعادة إنتاج خطاب نيوليبرالي ملائم للمرحلة السياسية، فالقرويون يُنجبون كثيراً ولا يعبأون بمواردهم، فتلك الأسر – في نظره – هي من تستحق اللوم، فالدولة ستظل عاجزة عن تلبية المطالب اللامنتهية للجماهير الغفيرة وغير المنتجة، ولم يلبث الوكيل – هربا من الشعور الطبيعي بالتعاطف وتأنيب الضمير – أن أغلق النافذة بدعوى أن أشعة الشمس تخترق الحاجز الزجاجي، ولكنه لم يستطع أن يغلق الحقيقة...
البحث عن بروليتاريا زراعية
كانت الحقيقة شاخصة خارج النافذة السميكة، ولكن الوكيل لم يرها إلا ذنباً اجتماعياً يدفع ثمنه هؤلاء الأطفال، حيث القيم والعادات الموروثة هي المُشكل، لكن ما غاب عن بال الوكيل أن الناس يُقاومون بالكَمّ، فتلك الفتيات يَبعنَ قوة عملهن في ظل نظام رأسمالي يفرض نفسه على القرية في صورة متجددة، وهي ذات الرأسمالية التى يُسبح بحمدها الوكيل، ولا يكف عن ذكر محاسنها، ودورها في فتح بيوت الناس، وانتشال الدولة من أعباء الإنفاق على مشروعات غير قادرة على النجاح، ولعل الوكيل أو أي مراقب - ينظر من النافذة - لن يصدق أن ما تقوم به تلك الفتيات الصغيرات هو علاقة رأسمالية! نعم كانت علاقة رأسمالية، فالتحول الرأسمالي عرف طريقه إلى القرية المصرية قبل أن تعرفه المدينة، وإن لم يكن هو النمط المُسيطر، لكنه كان دائما متمفصلا بالقرية مع علاقات إقطاعية أو خارجية حاكمة، فعلى الرغم من أن إقرار الحق القانوني في الملكية الخاصة للأرض الزراعية تم إقراره فى 1891، إلا أن علاقات الانتفاع التي حكمت استغلال الأرض الزراعية لم تمنع من ظهور علاقات رأسمالية صريحة لم ينقصها غير الإقرار القانوني بملكية الأرض المُستغَلة، لكن تلك الرأسمالية – حيث رأس المال والعمل المأجور وجها لوجه فى سوق عمل واحد – كانت جزءاً- ولا تزال - من السيطرة السياسية، فالسلطة تفرض رؤيتها في نمط الإنتاج الحاكم في الريف، فهى عملياً تهيمن على أدوات الإنتاج الأساسية، حيث قدرتها على تنظيم توزيع المياه منحتها مكانة تاريخية، ومَكّنتها من تحديد نمط الإنتاج المسيطر، وهو الإقطاع الشرقي ، فـ"محمد علي الكبير" ينجح في سنوات قليلة من تغيير الشخصية الزراعية لمصر، حيث النظام الخراجي الذي تسيطر فيه الدولة ونخبتها على رقاب المنتفعين، ويتحلل نظام الالتزام الذي مَثلّ فيه الملتزم سلطة مستقلة عن الدولة، وبالرغم من أن سياسة الملتزم كانت شبه إقطاعية ؛ حيث السلطة على الجسد والحركة، إلا أنها جمعت أنماطاً رأسمالية واضحة، لم تجد فرصة لتنضج؛ حيث الدولة ترسم مسارات التنمية كما تشاء، فإرادة "محمد علي" الخراجية مَكّنته من الهيمنة على علاقات الإنتاج ؛ بل والأجساد المنتجة، فكان الفلاح - من صغار المنتفعين - يمارس علاقة رأسمالية عندما يبيع قوة عمله نظير أجر لأحد كبار الأعيان - المرتبطين بالدولة - في أراضي أقطعها الوالي لهم، وفي وقت آخر يعمل سُخرةً في ذات الحقول، أو في حقول الدولة، حتى وردت الوثائق التاريخية العديدة؛ التي تشير إلى أن الفلاحين باتوا يفضلون تشريك أجسادهم وتشويه أطرافهم على العمل في حقول الدولة ومعاملها.
كانت الهيمنة على الجسد حق للدولة والسادة من كبار المنتفعين، فهم يملكون عقاب الفلاح المُقَصر في عمله، أو المخالف لرؤيتهم، أو المفارق لقريته، فالجلد، وبتر الأطراف، والتعذيب، والسخرة، والإلحاق بالجهادية؛ كلها نظم للعقاب، وكبت للقوى المنتجة عن التطور التلقائي الحر في علاقة مكافئة للسادة والسلطة، التي رأت في الجسد مصدر للسيطرة، فـ" الفلاح الخرسيس" لن يعمل بدون عقاب ومراقبة، ولن يطيع الحُكام بدون خوف وألم .
تنجح البرجوازية الزراعية في لحظات أزمة الدولة الخراجية من أن تقتنص حق الاعتراف القانوني بملكيتها للحيازة الزراعية، وتنجح تلك الطبقة فى نشر هيمنتها حتى على الدولة ذاتها، فتصبح القرية مركز الثقل الاجتماعي والاقتصادي، وحيز تكوين أصحاب المصالح، ويصبح الجوع على الأرض سياسة تلك الطبقة، التي عرفت الاحتكار الرأسمالي في أنقى صوره ، حتى يجيء العام 1950 والطبقة من كبار الملاك وتحديداً: 6% من الملاك يحوزون قانونيا ثلثي الأراضي الزراعية، بينما 94% من صغار ومتوسطي الملاك يحوزون الثلث فقط .
كانت خطة دولة يوليو خطة مدينية تحديثية تعتمد إحلال الواردات وتفضيل المدينة على القرية، لذا رأت الدولة أن السيطرة على الريف تنبع من تفكيك الحيازات الكبيرة، ومن ثم خلق طبقة من كبار ومتوسطى المستأجرين ، تكون أيسر على التطويع من كتلة متماسكة وكبيرة الملكية، فالقطاع العام في المدينة، والإصلاح الزراعي في القرية أجهزة للضبط وتطويع الأجساد سياسياً واقتصادياً، ومن ثم انتقل الثقل الاجتماعي والاقتصادي إلى المدينة ، فالمدينة – في نظر السلطة – ذات حيز واضح، وأحياء مخططة، تجمع أُناساً لا يعرفون بعضهم البعض، ولا تجمعهم أشياء كثيرة للوعي المشترك، وضَعُفت قدرة المستأجرين – الملاك من الناحية العملية – على تمثيل مصالحهم سياسياً، وارتبطوا بالدولة حماية لأوضاعهم القانونية، ولكن الدولة تخلت عنهم في 1992 بصدور قانون تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضى الزراعية، الذي أعاد الأوضاع إلى سابقها، ولكن بعد أن تغيرت الخريطة الاجتماعية للقرية، وتفتت الحيازات الزراعية بطريقة تمنع أية جهود جماعية للتكتل الطبقي أو السياسي، ولم يتم تطبيق ذات القانون على سكان المدينة، فالانحيازات الاجتماعية للدولة تفضل ركود الأوضاع الاجتماعية بالمدينة، مع فتح مجال رأسمالي موازي في المساكن والأحياء الجديدة.
عودة أمراء الإقطاع الجديد
كان للمالك الغائب الذي عادت إليه السيطرة على حيازته ميول مدينية استهلاكية، ففضل تبوير الحيازة واستغلالها عقارياً؛ وبما يُدر أرباحا تفوق العائد الزراعي الموسمي ، وتم ذلك في مواجهة بروليتاريا زراعية ضخمة من متوسطي وصغار المستأجرين وجدت نفسها بلا عمل ثابت، وبلا ضمانات قانونية وبلا أي غطاء اجتماعي، فزحفت قواها الشابة من الذكور على المدينة، والخليج وليبيا؛ لتغير تلك الطبقة من شخصيتها المنتجة؛ من عامل زراعي إلى عامل بناء ونجار مسلح وميكانيكي إلخ، وبقيت النساء والأطفال وكبار السن من أسر صغار المستأجرين، في ظل أسلوب رأسمالي لا يرى قيمة للحيز الزراعي من غير مردوده المالي المرتفع، فالتغير في إستغلال الحيز هو نتاج للتحولات الاجتماعية، فيتم التخلص من مشروع القرية المصرية، كما تم التخلص من القطاع العام، خاصة مع التوسع في النشاطات المدينية والصناعية شديدة استهلاك المياه، وتُعتَمد فكرة التنمية الزراعية في الصحراء، ويُخَدع الشباب بضرورة غزو الصحراء الشاسعة، في الوقت الذى يتم الإجهاز على القرية ذات الأرض الطينية، وإفقار البروليتاريا الزراعية من النساء والأطفال وكبار السن، الذين لا يجدون سبيلاً للفكاك، فالأرض والإنسان سلع تُطرح في السوق، وتُمَارس تلك السياسات بالعنف الرسمي، فالجهاز القمعي يتماهى مع الجهاز الأيديولوجي، بحيث يصعب التمييز بينهما، ففرض النظام العام لم يعد ممكناً بالتراضي والإجماع، وتشهد حالتي قريتي سرسو بالدقهلية، وأرض اللاجون بالسويس على انحياز السلطة لمشروع الإقطاعيين الجدد، فلم تعد للمجموعة والحشد قوة أو رمزية مؤثرة لدى السلطة، وهو سلوك تتبناه السلطة عناداً، وإصراراً على نزع شرعية الجماهير والكتل المحتشدة، ليس فقط في ميادين العمل والفِلاحة ولكن أيضا في ميادين الاحتجاج والثورة، فمشروع الثورة المصرية استند إلى كتل الأجساد المحتشدة، ومن ثم فتلك الكتل لن تُعار أية أهمية فى أي ميدان أو حيز، ففلاحو "سرسو" يدفعون ضريبة تصفية شرعية الحشد؛ فهم يُجبَرون على مغادرة أراضيهم التي منحها إياهم عبدالناصر بعد عودة أبنائهم من حرب اليمن، لصالح ورثة أحد كبار الإقطاعيين. وفي أرض "اللاجون" بالسويس تريد المحافظة طرد الفلاحين من أرضهم التى يزرعونها من عام 1987 بعقود رسمية؛ بحجة أنهم استولوا على أراضي الدولة، في الوقت الذي يستولي فيه أمراء الإقطاع على مساحات شاسعة بلا ثمن أو بقروش زهيدة، وهو ما يؤكد دور علاقات القوة في تحديد الحيازة وملكيتها .
ليس غريبا أن تكون أفقر القرى المصرية هى تلك التى مازال نشاطها الأساسي هو الزراعة، فالإقطاع الجديد ذو الملامح الرأسمالية يحكم ويهيمن، ولا يجد سبيلا للضبط والرقابة بغير سيطرة الأمراء الجدد على كل مفاصل الإنتاج والاقتصاد، مع استمرار تحويل الملايين إلى بروليتاريا حيث هي سلع وليست قوى اجتماعية .
السؤال الآن هو : ما مصير البروليتاريا الغفيرة التي لن يحتملها نمط الإقطاعيين الجدد؟ تلك البروليتاريا التي أُضرت جَرّاء التحولات الثورية في مصر والوطن العربي، تعود فلا تجد شيئاً تفعله، فالقرية تفككت بنيتها وصارت مدينة متريفة مشوهة المعالم، والمدينة تمزقت وتدهورت فرص العمل الكثيف بها، ويبدو أن الطرق المؤدية للعنف والتشدد باتت ممهدة ومتاحة.